شهدت العاصمة السويسرية "جنيف" في خلال الأيام الماضية فعاليات اجتماع استشاري على درجة كبيرة من الأهمية يتعلق ببحث آثار وجود مادة الأكريلاميد في الغذاء، وهو الاجتماع الذي استضافته منظمة الصحة العالمية WHO، بالاشتراك مع منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة FAO، وتزمع المنظمتان متابعة هذا الاجتماع الاستشاري، وإقامة شبكة للبحوث المتعلقة الأكريلاميد لزيادة التعرف على مدى تعرض الإنسان له وعلى آثاره المحتملة.
وسوف يضاف موضوع الأكريلاميد إلى جدول أعمال الاجتماع القادم للجنة الخبراء المشتركة بين منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة ومنظمة الصحة العالمية، المعنية بالمضافات الغذائية بهدف تقييم هذه المواد من الناحية الصحية.
ما هو الأكريلاميد؟
الأكريلاميد مادة كيميائية تُستخدم في صناعة البلاستيك، وقد تم اكتشاف وجود هذه المادة في بعض الأغذية المطبوخة تحت درجات حرارة عالية، وذلك عقب بحث أُعلن عنه في السويد في أبريل 2002، وهو مادة تؤدي للإصابة بالسرطان، وكذلك تلف الخلايا العصبية.
وقد تلت الدراسة السويدية أبحاث أخرى في كل من النرويج وسويسرا والمملكة المتحدة، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي أكدت على أن مستويات الأكريلاميد في بعض الأطعمة النشوية؛ مثل رقاقات البطاطس المحمرة، والبطاطس المقلية على الطريقة الفرنسية (Pommes Frits)، والمخبوزات والحبوب.. كانت أعلى من المستوى الذي حددته منظمة الصحة العالمية في دلائلها الإرشادية.
وقد تبين أن متوسط مستويات مدخول الأكريلاميد المستمد من جميع المصادر في حدود 65 ميكروجرامًا يوميًّا للشخص البالغ، وهو مستوى يقل بصورة ملموسة عن المدى المعروف بأنه يسبب الإصابة بتلف الأعصاب في حيوانات التجارب.
البطاطس المقلية وحمى السرطان
الجدير بالذكر أنه منذ الإعلان عن نتائج الدراسة السويدية وما تلاها من دراسات.. اجتاح العالم حالة من الذعر، خاصة أن صناعة رقائق البطاطس من الصناعات المربحة؛ ولذا فلا تبخل الشركات المنتجة في الإنفاق بسخاء على حملات الدعاية لها والترويج، خاصة أن هذه الشركات تتوجه بخطابها إلى أكثر شرائح المستهلكين هشاشة، وهم الأطفال؛ فنرى طوفانًا من الدعاية يخاطب عقولهم، فضلا عما تقدمه الدعاية الإعلانية من عناصر الإثارة والتسويق، مثل تصميم عبوات البطاطس في أشكال مبهرة، ذات نقوش وألوان زاهية كي تجذب إليها الأطفال، هذا بالإضافة إلى وضع بعض النكهات اللذيذة؛ فنجد بطاطس بطعم الفراخ، الكباب، الليمون، الكاري، الجبن وغيرها، ولا يوجد مثيل لها في البلاد الأوروبية أو الولايات المتحدة نفسها، وهي الموطن الرئيسي لمعظم هذه الشركات!
كيف يتم تصنيع رقائق البطاطس؟
يرى الدكتور "فوزي عبد القادر الفيشاوي" –الأستاذ بقسم علم وتكنولوجيا الأغذية بكلية الزراعة جامعة أسيوط- أن كثيرا من منتجات رقائق البطاطس المعروفة بالشيبسي (Potato Chips) والتي تنتشر في كل مكان.. يحوطها الكثير من الغموض، وأن الذين يدققون في مكوناتها وما تحتويه من مضافات بحثًا عن الحقيقة التي تخفيها أحيانا مزاعم ترويجية تضلل المستهلكين، وقد تؤدي إلى الإضرار بصحة أطفالنا.. قليلون. وقد أوضح الدكتور فوزي في دراسة تحت عنوان "أطفالنا وإدمان الشيبسي" أن فم الطفل هو المستهلك الذي تستهدفه شركات تصنيع الشيبسي.
وتبدأ أولى خطوات صناعة البطاطس المقلية بانتخاب نوع البطاطس الصالحة للقلي والتحمير؛ فالبطاطس الجديدة الكثيرة الرطوبة لا تصلح، وكذلك القديمة المخزونة؛ لأنها تحول قدرا من نشوياتها إلى سكر، وكذلك البطاطس المسماة بالشمعية وهي معروفة بغناها بالسكر وفقرها في النشويات؛ حيث إنها عند تحميرها في الزيت يتلون سطحها الخارجي سريعًا قبل أن ينضج داخلها؛ مما يجعل طعمها لينا رخوا من الداخل محترقًا من الخارج، ويرجع هذا لحدوث بعض التفاعلات بين السكر وبعض المواد النيتروجينية التي تؤدي إلى اكتساب البطاطس لونًا بنيًا غير مستحب.
لذا فالنوع الذي يصلح لهذه الصناعة هو النوع غير الشمعي الذي يمتاز باحتوائه على نسبة عالية من النشويات وقلة المحتوى من السكر، وهذا يؤدي إلى نضج قطع البطاطس المحمرة من الداخل قبل أن يتلون سطحها الخارجي، ولذا تعطي مذاقًا لذيذًا وقرمشة مستحبة لدى المستهلكين، وبعد انتقاء درنات البطاطس وفرزها في أحواض الغسيل، يتم نقلها إلى أجهزة التقشير (الكاريورلدوم) التي تنزع عنها قشرتها الخارجية تمهيدًا لتقطيعها آليا إلى رقائق بسُمك 1 إلى 2 مم، ثم توضع هذه الرقائق في تنكات التحمير العملاقة، التي تحتوي على كميات هائلة من زيوت التحمير.
وعلى الرغم من أننا نطالع على أكياس الشيبسي عبارة تقول "زيت نباتي".. فإنها بالطبع عبارة مضللة تكشفها نشرة أصدرتها وزارة الصحة الأمريكية ضمن مطبوعات المعاهد القومية المتخصصة رقمها 2920-92 تحت عنوان "كي تأكل لتخفيض الكوليسترول في الدم"، وهي عبارة تدل على احتواء أي منتج غذائي على نسبة من الكوليسترول، وهذا تؤكده حقيقة أن صانعي رقائق البطاطس لا يستخدمون في تحميره غير زيت النخيل؛ نظرا لموافقة صفاته التكنولوجية لأغراض الصناعة، مثل" انخفاض معدل قتامة اللون، والخلو من الرائحة في درجة الحرارة العادية، وانخفاض معدل تكوين الرغوة، وكذلك لثباته ضد الأكسدة بسبب قلة الأحماض الدهنية الثنائية عديمة التشبع، وكذلك خلوها من الأحماض الدهنية الثلاثية عديمة التشبع، وكلها أحماض دهنية غير ضارة بالصحة؛ لأنها لا تؤدي لارتفاع نسبة الكوليسترول بالجسم، ويذكر أن زيت النخيل يمكن أن يتحمل عمليات التحمير لمدة طويلة تصل على 52 ساعة متواصلة؛ مما يوافق أغراض الاستعمال الطويل.
كيف تتكون مادة الأكريلاميد في الغذاء؟
ليس من المعروف حتى الآن كيف تتكون هذه المادة أثناء طهي الأغذية، وخاصة المواد التي تحتوي على نسبة عالية من النشويات مثل البطاطس والأرز والخبز أثناء قليها أو تحميرها في الزيت، ولكن مما لا شك فيه أن درجة حرارة الزيت المستخدم في التحمير تلعب دورًا أساسيًّا؛ فمن المعروف أن عملية تحمير رقائق البطاطس تتم –كما أسلفنا- في تنكات ضخمة مليئة بالزيت قد يصل حجمها إلى طن، وهي تنكات مراقبة بأجهزة حساسة تتابع درجة التدخين ودرجة الحرارة أثناء التحمير، لكن لا بد من الاعتراف بصعوبة تغيير الزيت كل يوم أو كل أسبوع أو حتى كل شهر.
وقد تتواصل عملية تسخين الزيت لعدة أشهر لدرجة حرارة تصل إلى 180 درجة مئوية، وهي درجة حرارة عالية يتعرض عندها الزيت لجملة تفاعلات بعضها يجري داخل الزيت نفسه والبعض الآخر يحدث بين الزيت والأكسجين أو بينه وبين رقائق البطاطس أو الماء الموجود داخل البطاطس، وهذه التفاعلات قد تتسبب في تكوين العديد من البوليمرات الضارة بالصحة.
والمعروف أن مادة الأكريلاميد التي تتكون إثر تعرض المواد النشوية لدرجات حرارة عالية تزيد على 120 درجة مئوية هي من المواد المسرطنة، وقد ثبت تأثيرها المسرطن على حيوانات التجارب.
المزيد من البحوث حول الأكريلاميد
وقد حدد الاجتماع الاستشاري الذي عُقد مؤخرا في جنيف والذي شارك فيه 23 خبيرًا علميًّا من المتخصصين في السرطنة والسموم وتكنولوجيا الغذاء والكيمياء الحيوية والكيمياء التحليلية.. عددا من القضايا الهامة التي تمس الحاجة إلى إجراء بحوث فيها، فإذا كان من المعروف أن الأكريلاميد يسبب إصابة حيوانات التجارب بالسرطان؛ فإنه لم يتم إجراء دراسات على العلاقة بين الأكريلاميد وإصابة الإنسان بالسرطان، ولا يمكن الاعتماد إطلاقا على النماذج النظرية المستخدمة للتنبؤ بإمكانية إصابة الإنسان بالسرطان بسبب مستويات متوسطة من مدخول الأكريلاميد في الوصول إلى نتائج مؤكدة.
يُذكر أن تجربة الأكريلاميد في الجرذان قد كشفت أن له قوة مماثلة لقوة أنواع معينة معروفة من المسرطنات التي تتكون أثناء الطهي مثل الهيدروكربونات العطرية التي تتكون في اللحوم عند قليها أو شيِّها، إلا أنه من المحتمل أن تكون مستويات مدخول الأكريلاميد أعلى، وعليه فقد أكد المشاركون في الاجتماع الاستشاري أن قضية وجود الأكريلاميد في الغذاء تمثل مصدر قلق بالغ، واعتبر الاجتماع الاستشاري أن المعطيات المتوافرة لا تكفي لتقديم تقديرات كمية معينة لخطر الإصابة بالسرطان؛ نتيجة لمستويات الأكريلاميد في الأطعمة.
وقد حث العلماء على استقصاء إمكانات الحد من مستويات الأكريلاميد في الغذاء عن طريق تغيير أساليب خلط ومعالجة الأطعمة. وتعليقا على هذا صرح الدكتور "ديتر آرنولد" رئيس الاجتماع المشترك بين منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة قائلا: "انتهينا بعد استعراض جميع المعطيات المتوافرة إلى أن النتائج الجديدة التي تم التوصل إليها وإن كانت تمثل مشكلة خطيرة.. فإن معارفنا الحالية المحدودة لا تسمح لنا بالإجابة عن جميع الأسئلة التي طرحها المستهلكون والمشرعون وسائر الأطراف المعنية".
كما لاحظ العلماء أنهم لا يستطيعون تحديد ما إذا كانت الأغذية الأخرى تحتوي أيضا على الأكريلاميد؛ وذلك نظرا لعدم إجراء بحوث في هذا المجال بعد، وعليه فليس من الممكن بعد التأكد من أن النسبة المئوية من الأكريلاميد الموجودة في مجمل جسم الإنسان آتية من الأغذية النشوية، ولما كانت بعض الأغذية الأخرى كالفواكه والخضروات واللحوم والمأكولات البحرية والمشروبات والسجائر.. يمكن أن تؤدي إلى دخول الأكريلاميد إلى جسم الإنسان، فمن المتعذر معرفة تلك النسبة المئوية من إجمالي كمية الأكريلاميد الموجودة في جسم الإنسان، والتي هي مستمدة من مصادر غذائية، كما لا يعرف العلماء حتى الآن مدى السرعة التي يمكن للجسم بها أن يحلل الأكريلاميد. وقد أوصى المشاركون بضرورة إجراء مزيد من البحوث في المجالات التالية:
1- تحديد كيفية تكون الأكريلاميد أثناء عملية الطبخ.
2- دراسات وبائية حول حدوث السرطانات المعينة في الإنسان.
3- دراسات عن الأكريلاميد في الأغذية الأخرى.
وبعيدا عن هذه التوصيات فالسؤال الذي يطرح نفسه: أين نحن والشارع العربي من هذا؟ خاصة أن شعوبنا تأتي في مقدمة المستهلكين لمثل هذه الأغذية موضع الاتهام.. فهل تحركت أي هيئة أو منظمة صحية عربية لبحث هذا الأمر الذي يمثل خطورة بالغة على صحة المواطن العربي؟ وحتى الإجابة على هذا السؤال ليس لنا سوى انتظار توصيات أخرى تصدر في هذا الشأن من المنظمات الدولية، التي -كما يبدو- هي التي تحدد ماذا يأكل وماذا يشرب دول وشعوب العالم الثالث!.