يقول الله - تعالى -: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر: 17). ويقول - تعالى -: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). ويقول - تعالى -: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الحشر: 21).
وفيما تتسابق الكثير من المراكز التدريبية والتطويرية على إقامة برامج لتطوير الذات وزيادة القدرات العقلية والجسدية، ظهرت في المملكة العربية السعودية مؤخراً برامج تدريبية تعنى بحفظ القرآن الكريم، وقراءته، وتدبره.
ومن بين هذه البرامج التي تعقد بين الحين والآخر، دورة للدكتور يحيى الغوثاني (خطيب مسجد حي الزهراء بجدة) وأحد المدربين المعتمدين من قبل اتحادات عالمية للتدريب والتفكير.
وتشمل الدورة التي تحمل عنوان "أفكار إبداعية في حفظ القرآن الكريم، باستخدام تقنيات الدماغ المتقدمة وتقنيات التفوّق"، على عدة نقاط ومحاور..يمكن عرض أهمها وأكثرها شمولية، بقصد تعميم التجربة، ونشرها، لعل الله أن يهدي بها، ويوفق عبرها البعض لحفظ القرآن الكريم.
لماذا نحفظ القرآن؟
يوجز الدكتور الغوثاني أسباب حفظ المسلمين للقرآن الكريم، بما يلي:
1 للعلم والتعلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" (البخاري).
2 للهداية والاستهداء به: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء: من الآية9).
3 للاستشفاء: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ) (الإسراء: من الآية82).
4 - للتدبر والتفكر: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24).
5 ليحفظنا الله بالقرآن: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت: من الآية49).
تمثيل الامتياز البشري:
يقول الدكتور الغوثاني: "تقوم استراتيجيتنا في حفظ القرآن على دراسة الامتياز البشري ومن ثمّ تمثيل هذا الامتياز، فبمعرفة ما الذي يفعله الأشخاص المتميزون واكتشاف خططهم ثم تطبيقها يمكننا أن نصل إلى نتائج مماثلة".
ويعرّف التمثيل على أنه "عملية اكتشاف سلوك الشخص الخبير في مجال معين والسير على منهاجه للوصول لنفس الأهداف، أي هو اكتشاف ومطابقة الامتياز البشري".
مراحل تمثيل الامتياز البشري:
المرحلة الأولى: المراقبة:
أن تكون مع الشخص القدوة الذي تود أن تمثله في الوقت الذي يباشر فيه حفظ القرآن أو تلاوته، وأن تركّز انتباهك على الآتي:
أ ما الذي يفعله هذا النموذج بالتحديد (بما في ذلك السلوك وتحركات الجسم).
ب كيف يفعل ذلك (وهذا يشمل استراتيجيات التفكير الداخلي).
ج لماذا يفعل ذلك (وهذا يشمل الاعتقاد والإدراك).
المرحلة الثانية: جمع المعلومات:
في هذه المرحلة أنت تستجمع كل ما تعلمته وتجربه بنفسك لكي تكتشف الفرق الذي صنع الفرق أي الأشياء التي لها تأثير أكبر من الأخرى وبذلك تستطيع الحذف والإضافة للوصول إلى سلوك متكامل وأكثر فعالية وبذلك تحقق نفس النتائج.
المرحلة الثالثة: التصميم والنقل:
في هذه المرحلة تبدأ بتصميم طريقة لنقل المهارات التي تعلمتها أنت لنفسك وللآخرين وبفعلك ذلك فأنت تتعلم أكثر لتصبح قادراً على تدريس هذه المعلومات، وبالتالي تعلم الآخرين كيف يستطيعون الحصول على نفس النتائج الإيجابية.
ويستعرض الدكتور الغوثاني عبر دوراته، بعض الاستراتيجيات التي تفيد في حفظ القرآن الكريم، منها:
1 الاستراتيجية الأولى: التنفس. عبر الربط بين التنفس ومضاعفة الحفظ، على اعتبار أن التنفس أحد الأساليب المستخدمة حديثاً في زيادة الحفظ والتركيز.
2 الاستراتيجية الثانية: فن التشويق الدماغي.
3 الاستراتيجية الثالثة: استراتيجية الرسائل الإيجابية والرسائل السلبية. والتي تؤثر على العقل الواعي واللاواعي، ويستعرض الدكتور هنا بعضاً من المفاهيم الخاصة بذلك، مشيراً إلى أن 7% من تصرفاتنا فقط تتم عن طريق العقل الواعي. فيما تتم 92% من تصرفاتنا عبر العقل اللاواعي. حيث أنه يستقبل ملايين المعلومات في اللحظة الواحدة. ولا يفرق بين الحقيقة والخيال.
والتركيز على الحفظ عبر العقل اللاواعي تزيد من قوة الحفظ، ذلك أن وظائف العقل اللاواعي التي تهم مجال حفظ القرآن الكريم تتمثل بـ:
1 تخزين المعلومات.
2 معقل العواطف والمشاعر.
3 ينظم الأفعال اللاإرادية.
4 سجل للعادات.
5 يتحكم بالطاقة الجسدية والنفسية ويوجهها.
الاستراتيجية الخامسة: التعرف على طاقات العقل وكيفية برمجته:
ويشير الدكتور الغوثاني هنا إلى أن برمجة العقل على الحفظ، تتم عبر:
1 أن تكون الرسالة واضحة ومحددة (قررت أن أحفظ... )
2 أن تكون الرسالة إيجابية: أرغب في حفظ كلام الله (ركز على ما تريد لا على ما لا تريد).
3 - أن تدل الرسالة على الحاضر لا على المستقبل.
4 أن يصاحب الرسالة إحساس ومشاعر بتحقيقها.
5 أن تكرر (كررها قبل النوم وفي الطريق).
الاستراتيجية السادسة: استراتيجية تغيير النمط، والخروج من منطقة الراحة:
1 تغيير نمط طريقة الحفظ... النغمة والتجويد.
2 تغيير وقت الحفظ إلى قبيل الفجر أو بعيده.
الاستراتيجية السابعة: استراتيجية الرابط والإرساء والاستفادة منها في الحفظ.
الاستراتيجية الثامنة: الأنماط التمثيلية البشرية.
الاستراتيجية التاسعة: استراتيجية بناء الألفة (التهيئة النفسية)، ومنها:
1 ألفة مع الذات.
2 مع المصحف.
3 مع الحلقة ومدرسها والزملاء.
الاستراتيجية العاشرة: معرفة القواعد الصحيحة لحفظ القرآن الكريم: وعبر هذه الاستراتيجية، يستعرض الدكتور الغوثاني عدة قواعد لحفظ القرآن الكريم، وهي:
القاعدة الأولى: الإخلاص سِرُّ التوفيق والفتح من الله. ومن فوائد الإخلاص في الحفظ:
1 الشعور بلذة وسعادة أثناء الحفظ وهو ما يسمى بحلاوة الإيمان.
2 تحول التعب والإجهاد المصاحب لعملية الحفظ إلى لذّة وشعور بالنجاح.
3 إعانة من الله وتيسير وتثبيت تلمسه أثناء الحفظ.
4 أجر عظيم ومنزلة رفيعة مدخرة لك عند الله.
5 تغير في السلوك وإعانة على العمل.
6 الرضى والقبول.
القاعدة الثانية: الحفظ في الصغر كالنَّقْش في الحجر:
وهنا يؤكد الدكتور على أن الجنين في بطن أمه يستوعب ما يسمعه، وبذلك تبدأ عمليات الحفظ قبل أن يخلق الإنسان.
القاعدة الثالثة: اختيار وقت الحفظ:
ويستشهد الدكتور الغوثاني بكلام الخطيب البغدادي عندما قال:
اعلم أن للحفظ ساعات ينبغي لمن أراد التحفظ أن يراعيها فأجود الأوقات:... الأسحار.
وقال ابن جماعة:
أجود الأوقات للحفظ الأسحار وللبحث الأبكار وللكتابة وسط النهار وللمطالعة والمذاكرة الليل.
القاعدة الرابعة: اختيار مكان الحفظ:
الذاكرة المكانية: حيث أن أفضل مكان للحفظ هو المسجد؛ لأن الإنسان يحافظ في المسجد على منافذ القلب الثلاثة:
• العين، فلا يرى المحرمات.
• والأذن، فلا يسمع ما لا يرضي الله - عز وجل -.
• واللسان، فلا يتكلم إلا بخير..
القاعدة الخامسة:
• القراءة المجوَّدة والنغمة والتغنِّي بالقرآن.
• الذاكرة الإيقاعية النغمية.
القاعدة السادسة: الاقتصار على طبعة واحدة من المصحف.
القاعدة السابعة: تصحيح القراءة مقدَّم على الحفظ:
وهنا يقول الدكتور: "قبل أن تبدأ بحفظ أي سورة عليك أن تصحح قراءتك لها، والتصحيح يشمل تصحيح الحركات والمخارج والصفات، وذلك لا يكون بالجهد الفردي، فلا بد من الاستعانة بالشيخ المتقن؛ لأن القرآن لا يؤخذ إلا بالتلقي عن المشايخ". مشيراً إلى أن عدم تصحيح القراءة يؤدي إلى:
1 أخطاء كثيرة في الحركات والكلمات.
2 بطء في الحفظ.
3 صعوبة إصلاح الأخطاء بعد ذلك.
القاعدة الثامنة: عملية الربط تؤدي إلى الحفظ المتماسك:
ويعرّف عملية الربط على أنها "عبارة عن ربط بصري وسمعي وحسي بين أواخر الآيات التي تود حفظها بحيث تحفظ الآية الأولى وتركز النظر على آخرها".
القاعدة الثامنة: استراتيجية الأنماط التمثيلية البشرية:
القاعدة التاسعة:
عملية التكرار تحمي الحفظ الجديد من التَّفَلُّت والفِرار.
والتكرار نوعان:
1 تكرار بمعنى إمرار المحفوظ على القلب سراً.
2 تكرار برفع الصوت وقراءة المحفوظ كاملاً.
مشيراً إلى أن الدماغ يحب التكرار ما لم يكن مملاً.
القاعدة العاشرة: الحفظ اليومي المنظَّم خير من الحفظ المتقطع:
ومن القواعد المهمة ضمن هذه القاعدة:
1 أن تلزم النفس بالتشويق الدماغي بالحفظ اليومي.
2 أن تريح نفسك يوماً أو يومين في الأسبوع فلا تحفظ فيهما فذلك أنشط للذاكرة وأعون على الحفظ الثابت.
3 أن تحدد لنفسك جزءاً معيناً تحفظه في مدة محددة.
4 ألا تحفظ وقت الملل والضجر.
القاعدة الحادية عشرة: الحفظ البطيء الهادئ أفضل من السريع المندفع.
القاعدة الثانية عشرة: التركيز على المتشابهات يدفع الالتباسَ في الحفظ:
وأفضل طريقة للتغلب على هذه العقبة أن يرشدك الأستاذ الخبير الذي اخترته إلى مواضع هذه المتشابهات أثناء الحفظ فإن لم يتوافر الشيخ فعلى الطالب أن يعتمد على الكتب التي تهتم بهذا المجال، وهي كثيرة وعلى أنواع:
1 نوع يهتم بالمواضيع المتشابهة مع التوجيه والتعليل.
2 نوع يهتم بذكر المتشابهات وضبط مواضعها بدون تعليل.
3 نوع منظوم شعراً مثل السخاوية.
القاعدة الثالثة عشرة: الارتباط بالشيخ المعلِّم:
ويستعرض الدكتور الغوثاني هنا بعض الشروط التي ينبغي أن تتوافر في الشيخ المعلم، ومنها:
1 العقيدة الصحيحة.
2 وفرة العلم.
3 أن تكون لديه القدرة على إيصال المعلومة للآخرين.
4 أن يكون حافظاً للقرآن الكريم متقناً له، مجازاً به.
القاعدة الرابعة عشرة: تركيز النظر أثناء الحفظ على الآيات لتنطبع على صفحات الذهن:
حيث أن النظر هو الأداة الأساسية التي يعتمد عليها في عملية الحفظ وهذا هو التركيز البؤري. يقول إسماعيل بن أبي أويس مرشداً أحد السائلين: "إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم وقم عند السحر فأسرج (أي أقد السراج) وانظر فيه (أي في الذي تريد حفظه) فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله".
القاعدة الخامسة عشرة: لزوم الطاعات وترك المعاصي واقتران الحفظ والقراءة بالعمل.
القاعدة السادسة عشرة: المراجعة المنظمة تثبت المحفوظ.
القاعدة السابعة عشرة: الفهم الشامل سبيل الحفظ المتكامل.
القاعدة الثامنة عشرة: الدافع القوي والرغبة الذاتية في حفظ القرآن الكريم:
ويعرّف الدكتور الدافع على أنه "مجموعة القوى التي تحرك سلوك الإنسان وتوجهه نحو الأهداف".
وهي: حالة داخلية جسمية أو نفسية تثير السلوك في ظروف معينة وتوصله حتى ينتهي إلى غاية معينة.
ومن بين الدوافع التي تولد الرغبة في حفظ القرآن الكريم، ما يلي:
1 الثواب والأجر والارتقاء في درجات الجنة.
2 المنافسة وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
3 معرفة الحافظ لقيمة ما يحفظه أولاً بأول وتقييمه لمستوى حفظه.
4 تعمد الحفظ عن قصد وتحديد الهدف من الحفظ.
(ومما لا شك فيه أن هدف المسلم الأول هو: الفوز برضا الرحمن).
القاعدة التاسعة عشرة: الالتجاء إلى الله بالدعاء وطلب العون منه عامل مهم في حفظ القرآن.
قاعدة في المراجعة تناسب الذي لم يختموا بعد أن تكون مقسمة على هذا الترتيب:
من الجزء 1: 10 يجب المرور عليها كلها خلال أسبوع.
من الجزء 10: 15 يجب المرور عليها كلها خلال أسبوعين.
من الجزء 15: 20 يجب المرور عليها كلها خلال ثلاثة أسابيع.
من الجزء 20: 30 يجب المرور عليها كلها خلال أربعة أسابيع.
أنواع هجر القرآن:
ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتاب الفوائد خمسة أنواع من هجر القرآن الكريم، نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن لا نكون منهم.
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به، وكل هذا داخل في قوله - تعالى -: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) (الفرقان: 30)، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
ولعلنا نضيف سادساً: وهو هجر تعلمه وتعليمه وحفظ آياته وتجويد حروفه، حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خيركم من تعلم القرآن وعلّمه".
[center]